الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قرأ الحسن بن أبي الحسن {وجوّزنا} بشد الواو، وطرح الألف، ويشبه عندي أن يكون {جاوزنا} كتب في بعض المصاحف بغير ألف، وتقدم القول في صورة جوازهم في البقرة والأعراف، وقرأ جمهور الناس {فأتبعهم} لأنه يقال تبع وأتبع بمعنى واحد، وقرأ قتادة والحسن {فاتّبعهم} بشد التاء، قال أبو حاتم: القراءة {أتبع} بقطع الألف لأنها تتضمن الإدراك، و{اتّبع} بشد التاء هي طلب الأثر سواء أدرك أو لم يدرك، وروي أن بني إسرائيل الذين جاوزوا البحر كانوا ستمائة ألف، وكان يعقوب قد استقر أولًا بمصر في نيف على السبعين ألفًا من ذريته فتناسلوا حتى بلغوا وقت موسى العدد المذكور، وروي أن فرعون كان في ثمانمائة ألف أدهم حاشى ما يناسبها من ألوان الخيل، وروي أقل من هذه الأعداد.قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف، والذي تقتضيه ألفاظ القرآن أن بني اسرائيل كان لهم جمع كثير في نفسه قليل بالإضافة إلى قوم فرعون المتبعين، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكوفيون وجماعة: {عدوًا} على مثال غزا غزًا، وقرأ الحسن وقتادة {غزوًا} على مثال علا علوًا، وقوله: {أدركه الغرق} أي في البحر، وروي في ذلك أن فرعون لما انتهى إلى البحر فوجده قد انفرق ومشى فيه بنو إسرائيل، قال لقومه إنما انفلق بأمري وكان على فرس ذكر فبعث الله جبريل على فرس أنثى وديق فدخل بها البحر ولج فرس فرعون ورآه وحثت الجيوش خلفه فلما رأى الانفراق يثبت له استمر، وبعث ميكائيل يسوق الناس حتى حصل جميعهم في البحر، فانطبق عليهم حينئذ، فلما عاين فرعون قال ما حكى عنه في هذه الآية، قرأ الجمهور الناس {أنه} بفتح الألف، ويحتمل أن تكون في موضع نصب، ويحتمل أن تكون في موضع خفض على إسقاط الباء، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو {إنه} بكسر الألف، إما على إضمار الفعل أي آمنت فقلت إنه، وإما على أن يتم الكلام في قوله: {آمنت} ثم يتبدئ إيجاب {إنه} وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن جبريل عليه السلام قال ما أبغضت أحدًا بغضي لفرعون، ولقد سمعته يقول: {آمنت} الآية، فأخذت من حال البحر فملأت فمه مخافة أن تلحقه رحمة الله». وفي بعض الطرق: «مخافة أن يقول لا إله إلا الله فتلحقه الرحمة».قال القاضي أبو محمد: فانظر إلى كلام فرعون ففيه مجهلة وتلعثم، ولا عذر لأحد في جهل هذا وإنما العذر فيما لا سبيل إلى علمه كقول علي رضي الله عنه: «أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم»، والحال الطين، كذا في الغريب المصنف وغيره، والأثر بهذا كثير مختلف اللفظ والمعنى واحد، وفعل جبريل عليه السلام هذا يشبه أن يكون لأنه اعتقد تجويز المغفرة للتائب وإن عاين ولم يكن عنده قبل إعلام من الله تعالى أن التوبة بعد المعاينة غير نافعة، وقوله تعالى: {الآن وقد عصيت} الآية، قال أبو علي: اعلم أن لام المعرفة إذا دخلت على كلمة أولها الهمزة فخففت الهمزة فإن في تخفيفها وجهين: أحدهما أن تحذف وتلقى حركتها على اللام وتقر همزة الوصل فيه فيقال الحمر وقد حكى ذلك سيبويه، وحكى أبو عثمان عن أبي الحسن أن ناسًا يقولون لحمر فيحذفون الهمزة التي للوصل فمن ذلك قول الشاعر: [الطويل]
قرأ نافع في رواية ورش لم يختلف عنه {الآن} بمد الهمزة وفتح اللام، وقرأ الباقون بمد الهمزة وسكون اللام وهمز الثانية، وقرأت فرقة {الآن} بقصر الهمزة وفتح اللام وتخفيف الثانية وقرأ جمهور الناس {ألأْن} بقصر الأولى وسكون اللام وهمز الثانية.قال القاضي أبو محمد: وقراءات التخفيف في الهمزة تترتب على ما قال أبو علي فتأمله، فإن الأولى على لغة من يقول الحمر، وهذا على جهة التوبيخ له والإعلان بالنقمة منه، وهذا اللفظ يحتمل أن بكون مسموعًا لفرعون من قول ملك موصل عن الله وكيف شاء الله، ويحتمل أن كون معنى هذا الكلام معنى حاله وصورة خزيه، وهذه الآية نص في رد توبة المعاين، وقوله تعالى: {فاليوم ننجيك} الآية، يقوي ما ذكرناه من أنها صورة الحال لأن هذه الألفاظ إنما قيلت بعد فرقة، وسبب هذه المقالة على ما روي أن بني إسرائيل بعد عندهم غرق فرعون وهلاكه لعظمه عندهم، وكذب بعضهم أن يكون فرعون يموت فنجي على نجوة من الأرض حتى رآه جميعهم ميتًا كأنه ثور أحمر، وتحققوا غرقه، وقرأت فرقة {فاليوم ننجيك} وقالت فرقة معناه من النجاة أي من غمرات البحر والماء، وقال جماعة معناه نلقيك على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها، ومنه قول أوس بن حجر: [البسيط] وقرأ يعقوب {ننْجِيك} بسكون النون وتخفيف الجيم، وقرأ أبي بن كعب {ننحّيك} بالحاء المشددة من التنحية، وهي قراءة محمد بن السميفع اليماني ويزيد البريدي، وقالت فرقة: معنى: {ببدنك} بدرعك، وقالت فرقة معناه بشخصك وقرأت فرقة {بندائك} أي بقولك: {آمنت} إلخ الآية، ويشبه أن يكتب بندائك بغير ألف في بعض المصاحف، ومعنى الآية أنا نجعلك آية مع ندائك الذي لا ينفع، وقرأت فرقة هي الجمهور {خلفك} أي من أتى بعدك، وقرأت فرقة {خلقك} المعنى يجعلك الله آية له في عباده، ثم بيّن عز وجل العظة لعباده بقوله: {وإن كثير من الناس عن آياتنا لغافلون} وهذا خبر في ضمنه توعد. اهـ.
وقرأ اليزيديّ وابن السَّمَيْقَع {ننحّيك} بالحاء من التنحية، وحكاها علقمة عن ابن مسعود؛ أي تكون على ناحية من البحر. قال ابن جريج: فرمى به على ساحل البحر حتى رآه بنو إسرائيل، وكان قصيرًا أحمر كأنه ثور.وحكى علقمة عن عبد الله أنه قرأ: {بندائك} من النداء.قال أبو بكر الأنباريّ: وليس بمخالف لهجاء مصحفنا، إذ سبيله أن يكتب بياء وكاف بعد الدال؛ لأن الألف تسقط من ندائك في ترتيب خط المصحف كما سقط من الظلمات والسموات، فإذا وقع بها الحذف استوى هجاء بدنك وندائك، على أن هذه القراءة مرغوب عنها لشذوذها وخلافها ما عليه عامّة المسلمين؛ والقراءة سُنّة يأخذها آخر عن أوّل، وفي معناها نقص عن تأويل قراءتنا، إذ ليس فيها للدرع ذكر، الذي تتابعت الآثار بأن بني إسرائيل اختلفوا في غرق فرعون، وسألوا الله تعالى أن يريهم إياه غريقًا فألقوه على نَجوة من الأرض ببدنه وهو درعه التي يلبسها في الحروب.قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي: وكان درعه من لؤلؤ منظوم.وقيل: من الذهب وكان يعرف بها.وقيل: من حديد؛ قاله أبو صخر: والبدن الدرع القصيرة.وأنشد أبو عبيدة للأعشى: وأنشد أيضًا لعمرو بن معد يكرب: وقال كعب بن مالك: أراد بالأبدان الدروع، واليلب الدروع اليمانية، كانت تتخذ من الجلود يخرز بعضها إلى بعض؛ وهو اسم جنس، الواحد يلبة.قال عمرو بن كلثوم: وقيل: {ببدنك} بجسد لا روح فيه؛ قاله مجاهد: قال الأخفش: وأما قول من قال بدرعك فليس بشيء.قال أبو بكر: لأنهم لما ضرعوا إلى الله يسألونه مشاهدة فرعون غريقا أبرزه لهم فرأُوا جسدًا لا روح فيه، فلما رأته بنو إسرائيل قالوا نعم! يا موسى هذا فرعون وقد غرِق؛ فخرج الشك من قلوبهم وابتلع البحر فرعون كما كان. فعلى هذا {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} احتمل معنيين: أحدهما نلقيك على نَجْوة من الأرض. والثاني نظهر جسدك الذي لا روح فيه.والقراءة الشاذة {بندائك} يرجع معناها إلى معنى قراءة الجماعة، لأن النداء يفسر تفسيرين، أحدهما نلقيك بصياحك بكلمة التوبة، وقولِك بعد أن أغلق بابها ومضى وقت قبولها: {آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إله إلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} على موضع رفيع.والآخر فاليوم نعزِلك عن غامض البحر بندائك لمّا قلت أنا ربكم الأعلى؛ فكانت تنجيته بالبدن معاقبةً من رب العالمين له على ما فَرَط من كفره الذي منه نداؤه الذي افترى فيه وبُهت، وادعى القدرة والأمر الذي يعلم أنه كاذب فيه وعاجز عنه وغير مستحق له.قال أبو بكر الأنبارِيّ: فقراءتنا تتضمن ما في القراءة الشاذة من المعاني وتزيد عليها.قوله تعالى: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} أي لبني إسرائيل ولمن بقي من قوم فرعون ممن لم يدركه الغرق ولم ينته إليه هذا الخبر.{وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} أي معرضون عن تأمّل آياتنا والتفكر فيها.وقرئ {لمن خَلَفك} (بفتح اللام)؛ أي لمن بقي بعدك يخلفك في أرضك. وقرأ عليّ بن أبي طالب {لمن خلقك} بالقاف؛ أي تكون آية لخالقك. اهـ.
|